فصل: فَصْلٌ: حُكْمُ الْإِحْصَارِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: حُكْمُ الْإِحْصَارِ:

وَأَمَّا حُكْمُ الْإِحْصَارِ فَالْإِحْصَارُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ، لَكِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا: جَوَازُ التَّحَلُّلِ عَنْ الْإِحْصَارِ وَالثَّانِي: وُجُوبُ قَضَاءِ مَا أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ.
أَمَّا جَوَازُ التَّحَلُّلِ فَالْكَلَامُ فِيهِ فِي مَوَاضِعَ فِي تَفْسِيرِ التَّحَلُّلِ، وَفِي بَيَانِ جَوَازِهِ، وَفِي بَيَانِ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ، وَفِي بَيَانِ مَكَانِهِ وَفِي بَيَانِ زَمَانِهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ التَّحَلُّلِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّحَلُّلُ: هُوَ فَسْخُ الْإِحْرَامِ، وَالْخُرُوجُ مِنْهُ بِالطَّرِيقِ الْمَوْضُوعِ لَهُ شَرْعًا وَأَمَّا دَلِيلُ جَوَازِهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} وَفِيهِ إضْمَارٌ وَمَعْنَاهُ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ-: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ عَنْ إتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فَاذْبَحُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْهَدْيِ، إذْ الْإِحْصَارُ نَفْسُهُ لَا يُوجِبُ الْهَدْيَ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ وَيَبْقَى مُحْرِمًا كَمَا كَانَ إلَى أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ فَيَمْضِيَ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} مَعْنَاهُ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا، أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ فَفِدْيَةٌ، وَإِلَّا فَكَوْنُ الْأَذَى فِي رَأْسِهِ لَا يُوجِبُ الْفِدْيَةَ.
وَكَذَا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مَعْنَاهُ: فَأَفْطَرَ؛ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لَا يُوجِبُ الصَّوْمَ فِي عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
وَكَذَا قَوْلُهُ: {فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ} مَعْنَاهُ: فَأَكَلَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الِاضْطِرَارِ لَا يُوجِبُ الْإِثْمَ كَذَا هَاهُنَا؛ وَلِأَنَّ الْمُحْصَرَ مُحْتَاجٌ إلَى التَّحَلُّلِ؛ لِأَنَّهُ مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ الدَّفْعَ، فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ لَبَقِيَ مُحْرِمًا لَا يَحِلُّ لَهُ مَا حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ إلَى أَنْ يَزُولَ الْمَانِعُ فَيَمْضِيَ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى التَّحَلُّلِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ وَالْحَرَجِ.
وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِحْصَارُ عَنْ الْحَجِّ، أَوْ عَنْ الْعُمْرَةِ، أَوْ عَنْهُمَا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ فَالْمُحْصَرُ نَوْعَانِ:.
نَوْعٌ لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ، وَنَوْعٌ يَتَحَلَّلُ بِغَيْرِ الْهَدْيِ.
أَمَّا الَّذِي لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ: فَكُلُّ مَنْ مُنِعَ مِنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ حَقِيقَةً، أَوْ مُنِعَ مِنْهُ شَرْعًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِحَقِّ الْعَبْدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَهَذَا لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ وَهُوَ: أَنْ يَبْعَثَ بِالْهَدْيِ أَوْ بِثَمَنِهِ لِيَشْتَرِيَ بِهِ هَدْيًا فَيُذْبَحَ عَنْهُ، وَمَا لَمْ يُذْبَحْ لَا يَحِلُّ.
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ سَوَاءٌ كَانَ شَرَطَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ بِغَيْرِ ذَبْحٍ عِنْدَ الْإِحْصَارِ، أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمُحْصَرُ يَحِلُّ بِغَيْرِ هَدْيٍ، إلَّا إذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَيَذْبَحُهُ.
وَيَحِلُّ وَقِيلَ: إنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ لَمْ يَشْتَرِطْ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْهَدْيِ.
وَإِنْ كَانَ شَرَطَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْهَدْيِ احْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالتَّحَلُّلِ مِنْ غَيْرِ هَدْيٍ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ هَدْيٍ»؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي نَحَرَهُ كَانَ هَدْيًا سَاقَهُ لِعُمْرَتِهِ لَا لِإِحْصَارِهِ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ عَلَى النِّيَّةِ الْأُولَى، وَحَلَّ مِنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ دَمٍ، فَدَلَّ أَنَّ الْمُحْصَرَ يَحِلُّ بِغَيْرِ هَدْيٍ يُحَقِّقُ مَا قُلْنَا: إنَّهُ لَيْسَ فِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ نَحَرَ دَمَيْنِ، وَإِنَّمَا نَحَرَ دَمًا وَاحِدًا.
وَلَوْ كَانَ الْمُحْصَرُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِدَمٍ لَنَحَرَ دَمَيْنِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ.
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} مَعْنَاهُ: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَيُذْبَحَ، نَهَى عَزَّ وَجَلَّ عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ قَبْلَ ذَبْحِ الْهَدْيِ فِي مَحِلِّهِ، وَهُوَ الْحَرَمُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَقْتَ الْإِحْصَارِ أَمْ لَا، شَرَطَ الْمُحْصَرُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ الْإِحْلَالَ عِنْدَ الْإِحْصَارِ أَوْ لَمْ يَشْرِطْ، فَيَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلِأَنَّ شَرْعَ التَّحَلُّلِ ثَبَتَ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَسْخِ الْإِحْرَامِ وَالْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ أَوَانِهِ، فَكَانَ ثُبُوتُهُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ، وَالضَّرُورَةُ تَنْدَفِعُ بِالتَّحَلُّلِ بِالْهَدْيِ، فَلَا يَثْبُتُ التَّحَلُّلُ بِدُونِهِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ هَدْيٍ، إذْ لَا يُتَوَهَّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ حَلَّ مِنْ إحْصَارِهِ بِغَيْرِ هَدْيٍ.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْمُحْصَرَ أَنْ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ.
وَلَكِنَّ وَجْهَ ذَلِكَ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَهُوَ مَعْنَى الْمَرْوِيِّ فِي حَدِيثِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ- أَنَّهُ نَحَرَ دَمًا وَاحِدًا أَنَّ الْهَدْيَ الَّذِي كَانَ سَاقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ هَدْيَ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ، فَلَمَّا مُنِعَ عَنْ الْبَيْتِ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ دَمِ الْإِحْصَارِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قُلْتُمْ: إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَرَفَ الْهَدْيَ عَنْ سَبِيلِهِ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ مَنْ بَاعَ هَدِيَّةَ التَّطَوُّعِ فَهُوَ مُسِيءٌ لِمَا أَنَّهُ صَرَفَهُ عَنْ سَبِيلِهِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ؛ لِأَنَّ الَّذِي بَاعَهُ صَرَفَهُ عَنْ سَبِيلِ التَّقَرُّبِ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى رَأْسًا فَأَمَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصْرِفْ الْهَدْيَ عَنْ سَبِيلِ التَّقَرُّبِ أَصْلًا وَرَأْسًا، بَلْ صَرَفَهُ إلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ: وَهُوَ الْوَاجِبُ، وَهُوَ دَمُ الْإِحْصَارِ وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْهَدْيَ لِإِحْصَارِهِ مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَحْلِقْ حَتَّى نَحَرَ هَدْيَهُ.
وَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ انْحَرُوا وَحِلُّوا» وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.
وَإِذَا لَمْ يَتَحَلَّلْ إلَّا بِالْهَدْيِ وَأَرَادَ التَّحَلُّلَ يَجِبُ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ، أَوْ ثَمَنَهُ لِيُشْتَرَى بِهِ الْهَدْيُ فَيُذْبَحُ عَنْهُ وَيَجِبُ أَنْ يُوَاعِدَهُمْ يَوْمًا مَعْلُومًا يُذْبَحُ فِيهِ؛ فَيَحِلُّ بَعْدَ الذَّبْحِ، وَلَا يَحِلُّ قَبْلَهُ، بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ غَيْرِ الْمُحْصَرِ، فَلَا يَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَلَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ حَتَّى يَكُونَ الْيَوْمُ الَّذِي وَاعَدَهُمْ فِيهِ، وَيَعْلَمُ أَنَّ هَدْيَهُ قَدْ ذُبِحَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} حَتَّى لَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ ذَبْحِ الْهَدْيِ، يَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا، وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فِي مَوْضِعِهِ حَتَّى لَوْ حَلَقَ قَبْلَ الذَّبْحِ؛ تَجِبُ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ سَوَاءٌ حَلَقَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ لِعُذْرٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} أَيْ: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَ، فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ، أَوْ صَدَقَةٍ، أَوْ نُسُكٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أَيْ: فَأَفْطَرَ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ.
وَعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: «فِي نَزَلَتْ الْآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِي وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟ فَقُلْت: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْلِقْ وَأَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ اُنْسُكْ نَسِيكَةً فَنَزَلَتْ الْآيَةُ» وَالنُّسُكُ جَمْعُ نَسِيكَةٍ، وَالنَّسِيكَةُ الذَّبِيحَةُ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الشَّاةُ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الشَّاةَ مُجْزِئَةٌ فِي الْفِدْيَةِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: اُنْسُكْ شَاةً» وَإِذَا وَجَبَتْ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ إذَا حَلَقَ رَأْسَهُ لِأَذًى بِالنَّصِّ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ إذَا حَلَقَ لَا لِأَذًى بِدَلَالَةِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ سَبَبُ تَخْفِيفِ الْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ، فَلَمَّا وَجَبَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ؛ فَفِي حَالِ الِاخْتِيَارِ أَوْلَى.
وَلَا يُجْزِئُ دَمُ الْفِدْيَةِ إلَّا فِي الْحَرَمِ كَدَمِ الْإِحْصَارِ، وَدَمِ الْمُتْعَةِ، وَالْقِرَانِ.
وَأَمَّا الصَّدَقَةُ وَالصَّوْمُ: فَإِنَّهُمَا يُجْزِيَانِ حَيْثُ شَاءَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تُجْزِئُ الصَّدَقَةُ إلَّا بِمَكَّةَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْهَدْيَ يَخْتَصُّ بِمَكَّةَ، فَكَذَا الصَّدَقَةُ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ أَهْلَ الْحَرَمِ يَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} مُطْلَقًا عَنْ الْمَكَانِ، إلَّا أَنَّ النُّسُكَ قَيْدٌ بِالْمَكَانِ بِدَلِيلٍ فَمَنْ ادَّعَى تَقْيِيدَ الصَّدَقَةِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ الْهَدْيَ إنَّمَا اخْتَصَّ بِالْحَرَمِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ أَهْلُ الْحَرَمِ فَكَذَا الصَّدَقَةُ فَنَقُولُ: هَذَا الِاعْتِبَارُ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ الْهَدْيَ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ فِي الْحَرَمِ؛ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ.
وَلَوْ ذَبَحَ فِي الْحَرَمِ وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْحَرَمِ يَجُوزُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ: أَنَّ مَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَهْدِيَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ إلَّا بِمَكَّةَ وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ صَدَقَةً، لَهُ أَنْ يُطْعِمَ، وَيَتَصَدَّقَ حَيْثُ شَاءَ، فَدَلَّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا.
وَلَوْ حَلَّ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ ذُبِحَ عَنْهُ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُذْبَحْ فَهُوَ مُحْرِمٌ كَمَا كَانَ، لَا يَحِلُّ مَا لَمْ يُذْبَحْ عَنْهُ لِعَدَمِ شَرْطِ الْحِلِّ وَهُوَ: ذَبْحُ الْهَدْيِ وَعَلَيْهِ لِإِحْلَالِهِ تَنَاوُلَ مَحْظُورِ إحْرَامِهِ دَمٌ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ كَفَّارَةً لِذَنْبِهِ، ثُمَّ الْهَدْيُ: بَدَنَةٌ، أَوْ بَقَرَةٌ، أَوْ شَاةٌ، وَأَدْنَاهُ شَاةٌ لِمَا رَوَيْنَا.
وَلِأَنَّ الْهَدْيَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى أَيْ: يُبْعَثُ وَيُنْقَلُ وَفِي الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ.
وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ.
وَالْأَفْضَلُ هُوَ الْبَدَنَةُ، ثُمَّ الْبَقَرَةُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْمُتَمَتِّعِ وَلِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرَ الْبُدْنَ، وَكَانَ يَخْتَارُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَفْضَلَهَا» وَإِنْ كَانَ قَارِنًا لَا يَحِلُّ إلَّا بِدَمَيْنِ عِنْدَنَا.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَحِلُّ بِدَمٍ وَاحِدٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ: إنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ، فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِهَدْيَيْنِ، وَعِنْدَهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ وَيَدْخُلُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجَّةِ فَيَكْفِيهِ دَمٌ وَاحِدٌ.
وَلَوْ بَعَثَ الْقَارِنُ بِهَدْيَيْنِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيُّهُمَا لِلْحَجِّ، وَأَيُّهُمَا لِلْعُمْرَةِ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لَهُمَا وَاحِدٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَعْيِينُ النِّيَّةِ كَقَضَاءِ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ.
وَلَوْ بَعَثَ الْقَارِنُ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ مِنْ الْحَجِّ وَيَبْقَى فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ تَحَلُّلَ الْقَارِنِ مِنْ أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِتَحَلُّلِهِ مِنْ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ بَدَلٌ عَنْ الطَّوَافِ ثُمَّ لَا يَتَحَلَّلُ بِأَحَدِ الطَّوَافَيْنِ عَنْ أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ، فَكَذَا بِأَحَدِ الْهَدْيَيْنِ.
وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَنْوِي حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً ثُمَّ أُحْصِرَ يَحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْمَجْهُولِ صَحِيحٌ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ إنْ شَاءَ صَرَفَهُ إلَى الْحَجِّ، وَإِنْ شَاءَ إلَى الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُجْمِلُ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ، وَالْقِيَاسُ: أَنْ لَا تَتَعَيَّنَ الْعُمْرَةُ بِالْإِحْصَارِ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ فِي عَمَلِ أَحَدِهِمَا، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا وَقَالُوا: تَتَعَيَّنُ الْعُمْرَةُ بِالْإِحْصَارِ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ أَقَلُّهُمَا، وَهُوَ مُتَيَقِّنٌ.
وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ وَسَمَّاهُ ثُمَّ نَسِيَهُ وَأُحْصِرَ يَحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ أَمَّا الْحِلُّ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ؛ فَلِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَإِنَّهُ يَقَعُ التَّحَلُّلُ مِنْهُ بِدَمٍ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا لُزُومُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ؛ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ، وَيُحْتَمَلُ بِعُمْرَةٍ، فَإِنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِحَجَّةٍ فَالْعُمْرَةُ لَا تَنُوبُ مَنَابَهَا، وَإِنْ كَانَ بِالْعُمْرَةِ فَالْحَجَّةُ لَا تَنُوبُ مَنَابَهَا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا لِيُسْقِطَ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ بِيَقِينٍ كَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَةُ خَمْسِ صَلَوَاتٍ لِيُسْقِطَ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ بِيَقِينٍ، كَذَا هَذَا، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُحْصَرْ وَوَصَلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْقَارِنِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ، وَالْعُمْرَةِ عَلَى طَرِيقِ النُّسُكِ.
وَأَمَّا مَكَانُ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَالْحَرَمُ عِنْدَنَا.
وَقَالَ: الشَّافِعِيُّ: لَهُ أَنْ يَذْبَحَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ، احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ الْهَدْيَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ نَحَرَ فِي الْحَرَمِ؛ وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ ثَبَتَ رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا.
وَذَلِكَ فِي الذَّبْحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وَلَوْ كَانَ كُلُّ مَوْضِعٍ مَحِلًّا لَهُ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْمَحِلِّ فَائِدَةٌ، وَلِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أَيْ: إلَى الْبُقْعَةِ الَّتِي فِيهَا الْبَيْتُ.
بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ نَفْسُ الْبَيْتِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ ذَكَرَ بِالْبَيْتِ وَهَاهُنَا ذَكَرَ إلَى الْبَيْتِ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ فَقَدْ رُوِيَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ نَحَرَ هَدْيَهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحَرَمِ، فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ، فَلَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ الْحُدَيْبِيَةَ فَحَالَ الْمُشْرِكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُخُولِ مَكَّةَ فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَعْرِضُ عَلَيْهِ الصُّلْحَ وَأَنْ يَسُوقَ الْبُدْنَ وَيَنْحَرَ حَيْثُ شَاءَ، فَصَالَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُدْنَهُ فِي الْحِلِّ مَعَ إمْكَانِ النَّحْرِ فِي الْحَرَمِ، وَهُوَ بِقُرْبِ الْحَرَمِ بَلْ هُوَ فِيهِ.
وَرُوِيَ عَنْ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَا: «نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي الْحِلِّ وَكَانَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَنْحَرَ بُدْنَهُ فِي الْحَرَمِ حَيْثُ كَانَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ، وَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَتْرُكَ نَحْرَ الْبُدْنِ فِي الْحَرَمِ، وَلَهُ سَبِيلُ النَّحْرِ فِي الْحَرَمِ؛ وَلِأَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ مَكَانٌ يَجْمَعُ الْحِلَّ وَالْحَرَمَ جَمِيعًا، فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَنْحَرَ فِي الْحِلِّ مَعَ كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى النَّحْرِ فِي الْحَرَمِ، وَلَوْ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا عَنْهُ فِي الْحَرَمِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَهُوَ عَلَى إحْرَامِهِ، وَلَا يَحِلُّ مِنْهُ إلَّا بِذَبْحِ الْهَدْيِ فِي الْحَرَمِ لِفَقْدِ شَرْطِ التَّحَلُّلِ، وَهُوَ: الذَّبْحُ فِي الْحَرَمِ، فَبَقِيَ مُحْرِمًا كَمَا كَانَ وَعَلَيْهِ لِإِحْلَالِهِ فِي تَنَاوُلِهِ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ دَمٌ لِمَا قُلْنَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ بَعَثَ الْهَدْيَ وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوا عَنْهُ فِي الْحَرَمِ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ ذَبَحُوا عَنْهُ فِيهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَذْبَحُوا، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُحْرِمًا لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ بَعَثَ هَدْيَيْنِ وَهُوَ مُفْرِدٌ فَإِنَّهُ يَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ بِذَبْحِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا، وَيَكُونُ الْآخَرُ تَطَوُّعًا لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِلِّ عِنْدَ وُجُودِ ذَبْحِ الْأَوَّلِ مِنْهُمَا.
وَلَوْ كَانَ قَارِنًا لَا يَحِلُّ إلَّا بِذَبْحِهِمَا وَلَا يَحِلُّ بِذَبْحِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحِلِّ فِي حَقِّهِ الزَّمَانُ، فَمَا لَمْ يُوجَدَا لَا يَحِلُّ.
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ فَلَمْ يَجِدْ هَدْيًا يَبْعَثُ، وَلَا ثَمَنَهُ هَلْ يَحِلُّ بِالصَّوْمِ وَيَكُونُ الصَّوْمُ بَدَلًا عَنْهُ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ: لَا يَحِلُّ بِالصَّوْمِ وَلَيْسَ الصَّوْمُ بَدَلًا عَنْ هَدْيِ الْمُحْصَرِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ.
وَيُقِيمُ حَرَامًا حَتَّى يُذْبَحَ الْهَدْيُ عَنْهُ فِي الْحَرَمِ، أَوْ يَذْهَبَ إلَى مَكَّةَ فَيَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَهُوَ: الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
وَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ كَمَا يَفْعَلُهُ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ، وَهُوَ: أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ فِي الْمُحْصَرِ لَا يَجِدُ الْهَدْيَ: قَوَّمَ الْهَدْيَ طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ طَعَامٌ صَامَ لِكُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِ: إنَّ الْهَدْيَ لِلْإِحْصَارِ بَدَلًا، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي مَاهِيَّةِ الْبَدَلِ فَقَالَ فِي قَوْلِ: الْبَدَلُ هُوَ الصَّوْمُ مِثْلَ صَوْمِ الْمُتْعَةِ، وَفِي قَوْلِ: الْبَدَلُ هُوَ الْإِطْعَامُ وَهَلْ يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ؟ لَهُ فِيهِ قَوْلَانِ: وَجْهُ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إنَّ لَهُ بَدَلًا أَنَّ هَذَا دَمٌ يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَدَلٌ كَدَمِ الْمُتْعَةِ.
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} أَيْ: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَيُذْبَحُ، نَهَى اللَّهُ عَنْ حَلْقِ الرَّأْسِ مَمْدُودًا إلَى غَايَةِ ذَبْحِ الْهَدْيِ.
وَالْحُكْمُ الْمَمْدُودُ إلَى غَايَةٍ لَا يَنْتَهِي قَبْلَ وُجُودِ الْغَايَةِ، فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَحَلَّلَ مَا لَمْ يَذْبَحْ الْهَدْيَ، سَوَاءٌ صَامَ، أَوْ أَطْعَمَ، أَوْ لَا.
وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالدَّمِ قَبْلَ إتْمَامِ مَوَاجِبِ الْإِحْرَامِ عُرِفَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ بِالرَّأْيِ.
وَأَمَّا الْحَلْقُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِلتَّحَلُّلِ وَيَحِلُّ الْمُحْصَرُ بِالذَّبْحِ بِدُونِ الْحَلْقِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ وَإِنْ حَلَقَ فَحَسَنٌ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَرَى عَلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ وَاجِبٌ لَا يَسَعُهُ تَرْكُهُ.
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ وَقَالَ: إنَّمَا لَا يَجِبُ الْحَلْقُ عِنْدَهُمَا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ.
فَأَمَّا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحَرَمِ: يَجِبُ الْحَلْقُ عِنْدَهُمَا، احْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِالْحَلْقِ» فَدَلَّ أَنَّ الْحَلْقَ وَاجِبٌ، وَلَهُمَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} مَعْنَاهُ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ وَأَرَدْتُمْ أَنْ تَحِلُّوا فَاذْبَحُوا مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ جَعَلَ ذَبْحَ الْهَدْيِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ إذَا أَرَادَ الْحِلَّ كُلٌّ مُوجِبٌ الْإِحْصَارَ فَمَنْ أَوْجَبَ الْحَلْقَ فَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضَ الْمُوجِبِ، وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ؛ وَلِأَنَّ الْحَلْقَ لِلتَّحَلُّلِ عَنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَالْمُحْصَرُ لَا يَأْتِي بِأَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَا حَلْقَ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجَصَّاصُ: لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ بَعْضُهَا فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُحْصِرَ فِي الْحَرَمِ فَأُمِرَ بِالْحَلْقِ، وَأَمَّا عَلَى جَوَابِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَصْلِ فَهُوَ: مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ، وَالِاسْتِحْبَابِ.
وَأَمَّا زَمَانُ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَمُطْلَقُ الْوَقْتِ لَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِحْصَارُ عَنْ الْحَجِّ، أَوْ عَنْ الْعُمْرَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: إنَّ الْمُحْصَرَ عَنْ الْحَجِّ لَا يُذْبَحُ عَنْهُ إلَّا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا، وَلَا خِلَافَ فِي الْمُحْصَرِ عَنْ الْعُمْرَةِ أَنَّهُ يُذْبَحُ عَنْهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ كَانَ.
وَجْهُ قَوْلِهِمَا: إنَّ هَذَا الدَّمَ سَبَبٌ لِلتَّحَلُّلِ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فَيَخْتَصُّ بِزَمَانِ التَّحَلُّلِ كَالْحَلْقِ بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ، فَإِنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ إحْرَامِهَا بِالْحَلْقِ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ، فَكَذَا بِالْهَدْيِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ الْمُحْصَرِ تَحَلُّلٌ قَبْلَ أَوَانِ التَّحَلُّلِ يُبَاحُ لِضَرُورَةِ دَفْعِ الضَّرَرِ بِبَقَائِهِ مُحْرِمًا رُخْصَةً وَتَيْسِيرًا، فَلَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالطَّوَافِ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ فَائِتُ الْحَجِّ، إذْ الْمُحْصَرُ فَائِتُ الْحَجِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حُكْمُ التَّحَلُّلِ فَصَيْرُورَتُهُ حَلَالًا يُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُ جَمِيعِ مَا حَظَرَهُ الْإِحْرَامُ لِارْتِفَاعِ الْحَاظِرِ، فَيَعُودُ حَلَالًا كَمَا كَانَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ.
وَأَمَّا الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ بِغَيْرِ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَكُلُّ مُحْصَرٍ مُنِعَ عَنْ الْمُضِيِّ فِي مُوجِبِ الْإِحْرَامِ شَرْعًا لَحِقَ الْعَبْدَ، كَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ الْمَمْنُوعَيْنِ شَرْعًا لِحَقِّ الزَّوْجِ، وَالْمَوْلَى بِأَنْ أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا، أَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ، فَلِلزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُمَا فِي الْحَالِ مِنْ غَيْرِ ذَبْحِ الْهَدْيِ، فَيَقَعُ الْكَلَامُ فِي هَذَا فِي مَوْضِعَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: فِي جَوَازِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّحَلُّلِ، وَالثَّانِي: فِي بَيَانِ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ أَمَّا الْجَوَازُ؛ فَلِأَنَّ مَنَافِعَ بُضْعِ الْمَرْأَةِ حَقُّ الزَّوْجِ وَمِلْكُهُ عَلَيْهَا فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مَعَ قِيَامِ الْإِحْرَامِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّحَلُّلِ، وَلَا سَبِيلَ إلَى تَوْقِيفِهِ عَلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ فِي الْحَرَمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِ لِلْحَالِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِلْحَالِ.
وَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَبْعَثَ الْهَدْيَ، أَوْ ثَمَنَهُ إلَى الْحَرَمِ لِيُذْبَحَ عَنْهَا، لِأَنَّهَا تَحَلَّلَتْ بِغَيْرِ طَوَافٍ، وَعَلَيْهَا حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ كَمَا عَلَى الرَّجُلِ الْمُحْصَرِ إذَا تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَلَا زَوْجَ لَهَا، وَلَا مَحْرَمَ، أَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ أَوْ مَحْرَمٌ فَمَاتَ أَنَّهَا لَا تَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِحَقِّ الْعَبْدِ، فَكَانَ تَحَلُّلُهَا جَائِزًا لَا حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهَا لِأَحَدٍ، أَلَا تَرَى لَهَا أَنْ تَبْقَى عَلَى إحْرَامِهَا مَا لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا، أَوْ زَوْجًا، فَكَانَ تَحَلُّلُهَا بِمَا هُوَ الْمَوْضُوعُ لِلتَّحَلُّلِ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ: ذَبْحُ الْهَدْيِ فَهُوَ الْفَرْقُ.
وَكَذَا الْعَبْدُ بِمَنَافِعِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى فَيَحْتَاجُ إلَى تَصْرِيفِهِ فِي وُجُوهِ مَصَالِحِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ مَعَ قِيَامِ الْإِحْرَامِ، فَيَحْتَاجُ إلَى التَّحَلُّلِ فِي الْحَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّوْقِيفِ عَلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ فِي الْحَرَمِ مِنْ تَعْطِيلِ مَصَالِحِهِ فَيُحَلِّلُهُ الْمَوْلَى لِلْحَالِ، وَعَلَى الْعَبْدِ إذَا عَتَقَ هَدْيُ الْإِحْصَارِ، وَقَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا أَهْلًا، إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ لِحَقِّ الْمَوْلَى، فَإِذَا عَتَقَ زَالَ حَقُّهُ، وَتَجِبُ عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ لِفَوَاتِ الْحَجِّ فِي عَامِهِ ذَلِكَ.
وَلَوْ كَانَ أَحْرَمَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ يُكْرَهُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ عَمَّا وَعَدَ وَخُلْفٌ فِي الْوَعْدِ، فَيُكْرَهُ.
وَلَوْ حَلَّلَهُ جَازَ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِمَنَافِعِهِ مِلْكُ الْمَوْلَى، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَزُفَرَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَذِنَ لِلْعَبْدِ فِي الْحَجِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ بِالْإِذْنِ، فَأَشْبَهَ الْحُرَّ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّ الْمُحَلِّلَ بَعْدَ الْإِذْنِ قَائِمٌ وَهُوَ الْمِلْكُ، إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا قُلْنَا.
وَإِذَا حَلَّلَهُ لَا هَدْيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِعَبْدِهِ شَيْءٌ.
وَلَوْ أُحْصِرَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمَوْلَى إنْفَاذُ هَدْيٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ لَلَزِمَهُ لِحَقِّ الْعَبْدِ وَلَا يَجِبُ لِلْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ حَقٌّ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ؛ لِأَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ صَارَ مِمَّنْ يُثْبَتُ لَهُ عَلَيْهِ حَقٌّ، فَصَارَ كَالْحُرِّ إذَا حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ فَأُحْصِرَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَحْجُوجِ عَنْهُ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ: أَنَّ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ عَنْهُ هَدْيًا فِي الْحَرَمِ فَيَحِلَّ؛ لِأَنَّ هَذَا الدَّمَ وَجَبَ لِبَلِيَّةٍ اُبْتُلِيَ بِهَا الْعَبْدُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ، وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْمَوْلَى.
وَكَذَا دَمُ الْإِحْصَارِ، وَلِهَذَا كَانَ دَمُ الْإِحْصَارِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ إذَا أُحْصِرَ الْحَاجُّ عَنْ الْمَيِّتِ لَا عَلَيْهِ كَذَا هَذَا.
وَلَوْ أَحْرَمَ الْعَبْدُ، أَوْ الْأَمَةُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى، ثُمَّ بَاعَهُمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْنَعَهُمَا وَيُحَلِّلَهُمَا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَفِي قَوْلِ زُفَرَ: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُمَا بِالْعَيْبِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا.
وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ، كَذَا حَكَى الْقَاضِي الْخِلَافَ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ.
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ، وَزُفَرَ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ: أَنَّ الَّذِي انْتَقَلَ إلَى الْمُشْتَرِي هُوَ مَا كَانَ لِلْبَائِعِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُحَلِّلَهُ عِنْدَهُ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالْإِذْنِ كَذَا الْمُشْتَرِي.
وَلَنَا أَنَّ الْإِحْرَامَ لَمْ يَقَعْ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي فَصَارَ كَأَنَّهُ أَحْرَمَ فِي مِلْكِهِ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ إذْنِهِ.
وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ، كَذَا هَذَا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ فِي الْحَجِّ ثُمَّ بَاعَهُ لَا أَكْرَهُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهُ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الْبَائِعِ، لِمَا فِيهِ مِنْ خَلْفِ الْوَعْدِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي أَمَةٍ لَهَا زَوْجٌ أَذِنَ لَهَا مَوْلَاهَا فِي الْحَجِّ فَأَحْرَمَتْ لَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يُحَلِّلَهَا؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ إنَّمَا ثَبَتَ لِلزَّوْجِ بِمَنْعِهَا مِنْ السَّفَرِ لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهَا.
وَمَنْعُ الْأَمَةِ مِنْ السَّفَرِ إلَى مَوْلَاهَا دُونَ الزَّوْجِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ سَافَرَ بِهَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَنْعُهَا، فَكَذَا إذَا أَذِنَ لَهَا فِي السَّفَرِ.
وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ، فَالتَّحَلُّلُ عَنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْإِحْصَارِ يَقَعُ بِفِعْلِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى أَدْنَى مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ مِنْ قَصِّ ظُفْرِهِمَا أَوْ تَطْيِيبِهِمَا، أَوْ بِفِعْلِهِمَا ذَلِكَ بِأَمْرِ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى، أَوْ بِامْتِشَاطِ الزَّوْجَةِ رَأْسَهَا بِأَمْرِ الزَّوْجِ، أَوْ تَقْبِيلِهَا، أَوْ مُعَانَقَتِهَا فَتَحِلُّ بِذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ حَاضَتْ فِي الْعُمْرَةِ: امْتَشِطِي وَارْفُضِي عَنْك الْعُمْرَةَ» وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ صَارَ حَقًّا عَلَيْهِمَا لِلزَّوْجِ وَالْمَوْلَى، فَجَازَ بِمُبَاشَرَتِهِمَا أَدْنَى مَا يَحْظُرُهُ الْإِحْرَامُ، وَلَا يَكُونُ التَّحَلُّلُ بِقَوْلِهِ: حَلَلْتُكِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَحْلِيلٌ مِنْ الْإِحْرَامِ فَلَا يَقَعُ بِالْقَوْلِ، كَالرَّجُلِ الْحُرِّ إذَا أُحْصِرَ فَقَالَ: حَلَلْت نَفْسِي.
وَأَمَّا وُجُوبُ قَضَاءِ مَا أَحْرَمَ بِهِ بَعْدَ التَّحَلُّلِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْمُحْصَرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْحَجَّةِ لَا غَيْرُ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ لَا غَيْرُ، وَإِمَّا أَنْ كَانَ أَحْرَمَ بِهِمَا، بِأَنْ كَانَ قَارِنًا، فَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْحِجَّةِ لَا غَيْرُ، فَإِنْ بَقِيَ وَقْتُ الْحَجِّ عِنْدَ زَوَالِ الْإِحْصَارِ، وَأَرَادَ أَنْ يَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ، أَحْرَمَ وَحَجَّ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ نِيَّةُ الْقَضَاءِ، وَلَا عُمْرَةَ عَلَيْهِ كَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي الْأَصْلِ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ تِلْكَ الْحَجَّةُ إلَّا بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ.
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ عَلَيْهِ قَضَاءَ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَعَلَيْهِ نِيَّةُ الْقَضَاءِ فِيهِمَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ وَالِاخْتِلَافِ مَا إذَا أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا فَمَنَعَهَا زَوْجُهَا فَحَلَّلَهَا، ثُمَّ أَذِنَ لَهَا بِالْإِحْرَامِ فَأَحْرَمَتْ فِي عَامِهَا ذَلِكَ، أَوْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ فَأَحْرَمَتْ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ مَا تَحُجُّهُ فِي هَذَا الْعَامِ دَخَلَ فِي حَدِّ الْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدَّى بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ؛ لِانْفِسَاخِ الْأَوَّلِ بِالتَّحَلُّلِ فَيَكُونُ قَضَاءً، فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْقَضَاءِ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ كَمَا لَوْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ.
وَلَنَا أَنَّ الْقَضَاءَ اسْمٌ لِلْفَائِتِ عَنْ الْوَقْتِ، وَوَقْتُ الْحَجِّ بَاقٍ فَكَانَ الْحَجُّ فِيهِ أَدَاءً لَا قَضَاءً، فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةِ الْقَضَاءِ، وَلَا تَلْزَمُهُ الْعُمْرَةُ؛ لِأَنَّ لُزُومَهَا لِفَوَاتِ الْحَجِّ فِي عَامِهِ ذَلِكَ، وَلَمْ يَفُتْ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ لَا غَيْرُ، وَإِنْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: حَجَّةٌ بِحَجَّةٍ، وَعُمْرَةٌ بِعُمْرَةٍ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ، إنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ مِثْلَ الْفَائِتِ، وَالْفَائِتُ هُوَ الْحَجَّةُ لَا غَيْرُ، فَمِثْلُهَا الْحَجَّةُ لَا غَيْرُ، وَرَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ حَلَّ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» وَلَمْ يَذْكُرْ الْعُمْرَةَ وَلَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَذَكَرَهَا.
وَلَنَا الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ أَمَّا الْأَثَرُ: فَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا فِي الْمُحْصَرِ بِحَجَّةٍ: يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَأَمَّا النَّظَرُ: فَلِأَنَّ الْحَجَّ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالشُّرُوعِ، وَلَمْ يَمْضِ فِيهِ، بَلْ فَاتَهُ فِي عَامِهِ ذَلِكَ، وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَإِنْ قِيلَ: فَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ لَا بِالدَّمِ وَالْمُحْصَرُ قَدْ حَلَّ بِالدَّمِ وَقَامَ الدَّمُ مَقَامَ الطَّوَافِ مِنْ الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ، فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ طَوَافٌ آخَرُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الدَّمَ الَّذِي حَلَّ بِهِ الْمُحْصَرُ مَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْ الطَّوَافِ لِيُقَالَ: إنَّهُ قَامَ مَقَامَ الطَّوَافِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ طَوَافٌ آخَرُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ؛ لِأَنَّ الْمُحْصَرَ لَوْ لَمْ يَبْعَثْ هَدْيًا؛ لَبَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً، وَفِيهِ حَرَجٌ وَضَرَرٌ، فَجَعَلَ لَهُ أَنْ يَتَعَجَّلَ الْخُرُوجَ مِنْ إحْرَامِهِ، وَيُؤَخِّرَ الطَّوَافَ الَّذِي لَزِمَهُ بِدَمٍ يُهَرِيقهُ فَحَلَّ بِالدَّمِ وَلَمْ يَبْطُلْ الطَّوَافُ، وَإِذَا لَمْ يُبْطِلْ الدَّمُ عَنْهُ الطَّوَافَ، وَلَمْ يُجْعَلْ بَدَلًا عَنْهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ، فَيَكُونَ ذَلِكَ عُمْرَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ مَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْ الطَّوَافِ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ فَائِتٌ لِحَجٍّ، أَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْسَخَ الطَّوَافَ الَّذِي لَزِمَهُ بِدَمٍ يُرِيقُهُ بَدَلًا عَنْهُ، لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بِالْإِجْمَاعِ، فَثَبَتَ أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ بِهِ، لَا بَدَلًا عَنْ الطَّوَافِ، فَانْدَفَعَ الْإِشْكَالُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنِّهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنْ ثَبَتَ فَهُوَ تَمَسُّكٌ بِالْمَسْكُوتِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ حَجَّةٌ بِحَجَّةٍ، وَعُمْرَةٌ بِعُمْرَةٍ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَجَّةِ بِالْحَجَّةِ، وَالْعُمْرَةِ بِالْعُمْرَةِ، وَهَذَا لَا يَنْفِي وُجُوبَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ بِالْحَجَّةِ وَلَا يَقْتَضِي أَيْضًا، فَكَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَيَقِفُ عَلَى قِيَامِ الدَّلِيلِ، وَقَدْ قَامَ دَلِيلُ الْوُجُوبِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} أَنَّهُ لَا يَنْفِي قَتْلَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالذَّكَرِ بِالْإِجْمَاعِ كَذَا هَذَا، وَيُحْمَلُ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْ الْوُقُوفَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ مِنْ قَابِلٍ وَلَا عُمْرَةَ عَلَيْهِ.
وَإِنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ لَا غَيْرُ قَضَاهَا لِوُجُوبِهَا بِالشُّرُوعِ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا وَقْتٌ مُعَيَّنٌ.
وَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَالْحَجَّةِ إنْ كَانَ قَارِنًا؛ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَتَيْنِ، أَمَّا قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فَلِوُجُوبِهِمَا بِالشُّرُوعِ.
وَأَمَّا عُمْرَةٌ أُخْرَى فَلِفَوَاتِ الْحَجِّ فِي عَامِهِ ذَلِكَ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِنَا.
فَأَمَّا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا حَجَّةٌ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْقَارِنَ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ، وَيَدْخُلُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ فِي الْحَجَّةِ، فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ، وَالْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ إذَا أُحْصِرَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا قَضَاءُ حَجَّةٍ عِنْدَهُ، فَكَذَا الْقَارِنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حُكْمُ زَوَالِ الْإِحْصَارِ: فَالْإِحْصَارُ إذَا زَالَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ زَالَ قَبْلَ بَعْثِ الْهَدْيِ أَوْ بَعْدَ مَا بَعَثَ، فَإِنْ زَالَ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ الْهَدْيَ مَضَى عَلَى مُوجِبِ إحْرَامِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَعَثَ الْهَدْيَ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ فَهَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ.
إمَّا أَنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ، وَالْحَجِّ، أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِهِمَا جَمِيعًا، أَوْ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ دُونَ الْحَجِّ، أَوْ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ دُونَ الْهَدْيِ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْحَجِّ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فَإِنَّ إبَاحَةَ التَّحَلُّلِ لِعُذْرِ الْإِحْصَارِ، وَالْعُذْرُ قَدْ زَالَ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْمُضِيُّ، وَجَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْمُضِيِّ، فَتَقَرَّرَ الْإِحْصَارُ فَيَتَقَرَّرُ حُكْمُهُ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ أَيْضًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي إدْرَاكِ الْهَدْيِ دُونَ إدْرَاكِ الْحَجِّ، إذْ الذَّهَابُ لِأَجْلِ إدْرَاكِ الْحَجِّ، فَإِذَا كَانَ لَا يُدْرِكُ الْحَجَّ فَلَا فَائِدَةَ فِي الذَّهَابِ، فَكَانَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ قِيلَ: إنَّ هَذَا الْوَجْهَ الرَّابِعَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ، بَلْ يَجُوزُ قَبْلَهَا فَيُتَصَوَّرُ إدْرَاكُ الْحَجِّ دُونَ إدْرَاكِ الْهَدْيِ.
فَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ فَلَا يُتَصَوَّرُ هَذَا الْوَجْهُ إلَّا فِي الْمُحْصَرِ عَنْ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُمَا مُؤَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ، فَإِذَا أَدْرَكَ الْحَجَّ فَقَدْ أَدْرَكَ الْهَدْيَ ضَرُورَةً، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ عِنْدَهُمَا فِي الْمُحْصَرِ عَنْ الْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَارَ عَنْهَا لَا يَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقِيَاسُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَدَرَ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ لَمْ يَعْجِزْ عَنْ الْمُضِيِّ فِي الْحَجِّ، فَلَمْ يُوجَدْ عُذْرُ الْإِحْصَارِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ وَيَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَلْزَمُهُ الْمُضِيُّ وَيَجُوزُ لَهُ التَّحَلُّلُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ صَارَ كَأَنَّ الْإِحْصَارَ زَالَ عَنْهُ بِالذَّبْحِ فَيَحِلُّ بِالذَّبْحِ عَنْهُ؛ وَلِأَنَّ الْهَدْيَ قَدْ مَضَى فِي سَبِيلِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِالذَّبْحِ عَلَى مَنْ بَعَثَ عَلَى يَدِهِ بَدَنَةً، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الذَّهَابِ بَعْدَ مَا ذُبِحَ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.